ديمة محبوبة
"صوت وتصرفات لا تشبه ابنتي"؛ هكذا وصفت لمياء حالة ابنتها في عمر البلوغ، مستذكرة اللحظة التي رفعت فيها ليلى صوتها لأول مرة، وردة فعلها على هذا التصرف، إذ عاشت لحظة من الذهول الحقيقي، لا تعرف ما إذا كان عليها الرد بانفعال أم تصمت.
وتضيف: "لم أتوقع يوما أن تتجرأ ليلى (15 عاما)، على مقاطعتي بصوت عال وكلمات قاسية. بدت وكأنها ليست ابنتي التي ربيتها على الاحترام، وصديقتي منذ طفولتها. شعرت بأن الحياة أقفلت في وجهي، خليط من الغضب والحزن اجتاحني".
هذه الحيرة في التصرف أمام المواقف الصعبة والمفاجئة التي تحدث بين الآباء وأطفالهم خلال مرحلة البلوغ، يشترك بها كثيرون. فهي لحظة تداخل بين ما زرعوه من قيم ومبادئ في أبنائهم، وبين ما يحصدونه من ردود أفعال تبدو خارجة عن السيطرة، خصوصا في مرحلة المراهقة الحرجة، التي أصبحت مسرحا لتغيرات سلوكية تربك العائلات، وتضعهم في مواجهة مباشرة مع مشاعرهم، وأسئلة تربوية غير سهلة.
"ابني مؤدب وخلوق، لكن فجأة بات يرد بعصبية، ويرفع صوته أمامي وأمام والده لأسباب تافهة، كأنني لا أعرفه، وكأن شخصا آخر قام بتربيته"، هكذا تقول سناء عن الحال الذي وصل له ابنها.
وتوضح أنها تحاول فهم الانقلاب المفاجئ في سلوك ابنها، الذي لم يكن معتادا على الحديث الحاد أو الانفعال في طفولته، بل كان دائما يشاركها مشاعره ويتناقش معها كثيرا. فحتى فكرة فتح باب الحوار كانت، على حد تعبيرها، حاضرة في بيتهم منذ طفولته.
وتعترف بأنها اليوم تتجنب النقاشات مع ابنها خالد خشية التطاول والتصعيد، مضيفة: "أخاف أن أفقد العلاقة معه إذا واصلت الضغط أو حاولت فرض سلطتي كما كنت أفعل سابقا".
ورغم أن معظم هذه السلوكيات لا تصدر عن نية حقيقية للإساءة، إن آثارها تبقى جارحة، وتتسبب بفجوة عاطفية يصعب ترميمها إذا تركت بلا معالجة. ويبدو المشهد أكثر تعقيدا حين يكون الطفل قد تربى على قيم الاحترام والإنصات، إذ يشعر الأهل حينها أن ما يحدث "لا يشبه تربيتهم".
بدورها توضح المرشدة النفسية والتربوية رائدة الكيلاني، أن ما يبدو للأهل هو عصيان أو تمرد مقصود، وهو في الحقيقة تعبير داخلي عن ضغط نفسي أو حاجة غير مفهومة لدى المراهق.
ووفق قولها؛ فإن التغيرات الهرمونية والنفسية في هذه المرحلة تجعل المراهق سريع الانفعال، وقد يصرخ أو يرد بجرأة من دون وعي كامل بعواقب سلوكه. وتشير إلى أن الأهل غالبا ما يفسرون هذه التصرفات على أنها تعد متعمدا على القيم، لكنها في الواقع تعبير غير ناضج عن مشاعر لم تفهم بعد، أو لم تمنح المساحة الآمنة للتعبير عنها.
وتنصح الكيلاني الأهل بعدم الرد الفوري بالغضب أو العقاب، بل تأجيل المواجهة حتى تهدأ الأجواء، ثم الحديث مع المراهق أو المراهقة بلغة تحترم مشاعرهما من دون التنازل عن القيم، وخصوصا قيمة الاحترام المتبادل. كما ترى أن الاعتذار المتبادل، حتى من الأهل أحيانا، يمكن أن يكون وسيلة فعالة لتعليم المراهق أن الاعتراف بالخطأ لا ينتقص من الكرامة.
وتوضح أن الأمر ليس سهلا، ففي بعض الأحيان يشعر الوالدان أن الاحترام داخل العائلة قد تلاشى، وأن عليهما وضع حدود صارمة على الفور. لكن هذه المرحلة حرجة، وتتطلب احتواء المراهق حتى تستقر مشاعره وتنتظم ردود فعله، وهو لن ينسى لاحقا كم كان مفهوما من والديه في لحظات ضعفه.
من جانبه يرى اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين خزاعي، أن تصاعد ظاهرة رفع الصوت في البيوت يعود إلى عدة أسباب، من بينها الفجوة التي اتسعت بين الأهل والأبناء بسبب الانشغال بالحياة اليومية من جهة، وتأثير المنصات الرقمية وثقافة السوشال ميديا من جهة أخرى، حيث يتأثر المراهقون بشخصيات ونماذج تعزز الجرأة في التعبير، حتى لو كانت على حساب احترام الآخر.
ويضيف خزاعي أن كثيرا من المراهقين لا يملكون أدوات حوار ناضجة، لذلك يرفعون أصواتهم كوسيلة لإثبات الذات أو فرض الرأي، مبينا أن التساهل المستمر مع هذا السلوك يمكن أن يتحول إلى نمط دائم، ويخلق داخل الأسرة مناخا مشحونا وغير آمن للتواصل داخل الأسرة.
"الأهالي الذين يربون أبناءهم بحب ويستثمرون وقتهم في ترسيخ القيم، يشعرون أحيانا أن كل ما قاموا ببنائه قد ينهار في لحظة صراخ". لكن الحقيقة كما تؤكد الكيلاني، أن التربية الجيدة لا تختفي، بل تختبر، والمراهقة ليست لحظة فشل، بل لحظة تحد تحتاج إلى أدوات جديدة، مثل الإنصات العاطفي، والمرونة، ووضع حدود واضحة ولكن غير قاسية. وتتفق الكيلاني وخزاعي على أن أهمية توفير جلسات إرشاد أسرية أو ورش توعوية للآباء حول خصائص المراهقين، لمساعدتهم على قراءة السلوك لا الحكم عليه فورا، وتذكيرهم أن الهدف ليس التحكم بالابن، بل المحافظة على العلاقة.
وأخيرا ورغم كل شيء، تبقى لحظة رفع الصوت جرس إنذار ليست النهاية، لكنها إشارة إلى أن المراهق يقول شيئا ما بطريقة خاطئة، لأنه لا يملك غيرها حاليا، وبين الصراخ والحوار، خيار يحتاج إلى شجاعة من الطرفين، وبينما لا يمكن للأهل التحكم بكل شيء، يمكنهم دائما اختيار كيف يردون، لا كيف يستفزون.