محمود مصطفى الحاج

طغى الصَّخَبُ على الإنصات، وغلبت العجَلة على التأني، حتى أصبحت ثقافة الحوار تترنح في مجتمعاتنا، وربما تقترب من الانهيار الكامل، ولم يعُد الحديث بين اثنين مساحةً للتفاهم أو جسرًا للتقارب، بل كثيرًا ما تحول إلى ساحة لإثبات الذات، أو إلى مواجهة تنتهي بالصدام أو القطيعة.

فما الذي جرى؟ وكيف تحولنا من مجتمعاتٍ كانت تتغنى بمجالس الحكمة والنقاش إلى أفراد يفرون من الحوار، ويخافون من الرأي المختلف، بل يعتبرونه تهديدًا؟

لطالما كان الحوار وسيلةً راقية للتواصل بين البشر، ومعبرًا عن نضج الفرد ورغبته في الفهم قبل الحكم، وفي الاستماع قبل الرد، غير أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا ملحوظًا في ممارسة هذه القيمة النبيلة، سواء على مستوى العلاقات الشخصية، أو النقاشات العامة، أو حتى في وسائل الإعلام والمنصات الرقمية.

يصاب المرء أحيانًا بالدهشة من حجم الخلافات التي تنشَب لأسباب تافهة، وحجم الغضب الذي يُبديه الناس تجاه رأيٍ مختلف عن قناعاتهم، وكأن الحوار لم يعد هدفه التقارب أو إثراء الفكر، بل أصبح ساحة لإثبات الذات، أو الدفاع المستميت عن الهوية.

السوشيال ميديا... المساحة التي فضحت هشاشتنا:

ربما لم تُفسد وسائل التواصل الاجتماعي الحوارَ، لكنها بالتأكيد عرَّت هشاشته، فقد تحولت المِنصات إلى مسارحَ للجدال الحاد، الذي تغيب عنه روح الإنصاف، وتختفي منه الرغبة في التعلم من الآخر، وكثيرون باتوا يدخلون إلى النقاشات ليس للبحث عن الحقيقة، بل لتأكيد وجهة نظرهم، ولو على حساب المنطق.

التعليقات، التغريدات، البوستات، كلها تحمل في طياتها الكثير من الغضب، والحدة، والتسرع في الأحكام، والأسوأ من ذلك، أن الاختلاف لم يعد يُدار بهدوء، بل يُترجم إلى سخرية، وقد يصل إلى التنمر.

 

البيت... البداية التي خذلتنا:

الحوار لا يُولَد فجأة، بل يُغرس منذ الطفولة، وعندما نفقده في منازلنا، فمن الطبيعي أن نفتقده في المجتمع، وكثير من الآباء لا يستمعون لأبنائهم، ولا يمنحونهم فرصة التعبير عن آرائهم، ويعتبرون الطاعة الصامتة نوعًا من الأدب، أما في المدارس، فالتلميذ "المهذب" هو الذي لا يسأل كثيرًا ولا يجادل.

في هذا السياق، ينشأ الطفل على الخوف من النقاش، وعلى تجنب التعبير عن الذات، وعلى اعتبار الرأي المختلف تهديدًا، وعندما يكبر، يدخل المجتمع وهو غير مجهَّز نفسيًّا أو فكريًّا للتعامل مع تعدد وجهات النظر.

ما الذي خسِرناه حين خسِرنا الحوار؟

  • خسرنا القدرة على التفاهم.
  • خسرنا فرصًا ثمينة ليتعلم بعضنا من بعض.
  • خسرنا نعمة الاختلاف التي كانت من قبلُ مصدرًا للإثراء، لا للعداء.

بغياب الحوار، تنمو القطيعة، وتشتد الكراهية، ويعلو صوت التطرف، فبدلًا من أن ندير خلافاتنا بالعقل، أصبحنا نفجرها بالمواقف الحادة والانفعالات، وبدلًا من أن نبحث عن حلول، صِرنا نبحث عن انتصارات وهمية.

هل من سبيل إلى استعادة ما ضاع؟

نعم، بشرط أن نبدأ من الجذور.

  • في البيت: دعوا أولادكم يتكلموا، وأصغوا إليهم حتى لو اختلفتم معهم.
  • في المدرسة: اجعلوا من الحوار مهارةً تُدرس، لا خطيئة يُعاقب عليها الطالب.
  • في الإعلام: قدموا المساحات التي تُنصت، لا المنصات التي تصرخ.
  • في أنفسنا: تعلمنا أن نفكر قبل أن نحكم، وأن نفهم قبل أن نرد.
JoomShaper