ديمة محبوبة
في عالم تحكمه الصورة ويقوده "الترند"، لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرد منصات للتعبير أو الترفيه، بل تحولت إلى ساحات صراع قاسية، يدفع ثمنها أشخاص يتأثرون بشدة بكل ما يكتب وبكل تعليق سلبي، لتتمحور حياتهم داخل مساحات مغلقة، تؤثر على حالتهم النفسية والجسدية.
مع كل تعليق ساخر أو هجوم جارح على شكل شخص أو وزنه الزائد أو أسلوب حياته، تتشكل ندبة في الروح من الممكن أن لا تلتئم أبدا.
في الأسابيع القليلة الماضية أثار خبر وفاة المؤثرة المغربية سلمى تيبو ناقوس خطر جديد، ما يعكس قسوة العالم الرقمي، ويكشف عن الثمن الحقيقي الذي يدفعه بعض المؤثرين من أجل "القبول" و"الإعجاب"، متناسين المثل "إرضاء الناس غاية لا تدرك".
سلمى تيبو، شابة مغربية كانت تحظى بمتابعة بأكثر من مليون متابع ومتابعة على منصات التواصل، أحبها الكثيرون، لكنها لم تسلم من النقد القاسي على وزنها الزائد وتعرضت لحملات تنمر شرسة ومتكررة على شكل جسدها وبشكل يومي، ما جعلها تبحث عن حل جذري لتنال إعجاب الجميع.
ولأن الجمهور لا يرحم، وينصب نفسه قاضيا وجلادا، يقرر مؤثرون على السوشال ميديا إجراء عمليات جراحية خطيرة منها النحت ومنها قص المعدة أو تغيير المسار وحتى إجراءات تجميلية للبشرة بشكل متكرر ما يغير الملامح بشكل جذري وهوس لم يكونوا بحاجة إليه، حيث أن بورصة الإعجاب تتصاعد وتتهاوى عند المتابعين ما يجعل الكثيرون يتأثرون، ويخضعون لرغبات الآخرين.
المرشدة النفسية والتربوية رائدة الكيلاني تؤكد أن "التنمر الإلكتروني له أثر تراكمي خطير، خاصة عندما يستهدف الشكل الخارجي أو خيارات الحياة الشخصية، هذا النوع من الأذى لا يتوقف عند التعليق، بل يتحول إلى شعور دائم بعدم الكفاية، وربما كراهية الذات".
وتضيف أن ما يجعل التنمر الإلكتروني أكثر خطورة هو انتشاره الجماعي، إذ يتحول المتنمرون إلى جمهور، والمستهدف إلى مادة ترفيه، وهذا يضغط على الضحية نفسيا بشكل يؤدي إلى قرارات اندفاعية ومؤذية، مثل العمليات التجميلية أو الحميات القاسية أو حتى الانعزال والاكتئاب.
وتبين الكيلاني أن مشكلة هذا التنمر لا تقتصر على الأفراد، بل تتغذى عليها خوارزميات المنصات نفسها، فمقاطع تسخر من أشكال الناس أو أنماط حياتهم تلقى رواجا كبيرا، وتحصد آلاف المشاهدات والتعليقات، مما يحول الأذى النفسي إلى سلعة رقمية مربحة، حتى أن البعض أصبح يندرج تحت جماعة المؤثرين ولديه ملايين المتابعين وكل محتواه هو فقط التنمر على محتوى الآخرين.
يقول اختصاصي علم الاجتماع د. حسين خزاعي "إن ما يحدث على منصات التواصل الاجتماعي ليس مجرد إساءة فردية، بل هو انعكاس لثقافة استهلاكية سريعة، تبحث عن الإثارة وتسخر من الاختلاف، والكارثة أن المؤثرين غالبا ما يشعرون بأنهم مرغمون على إرضاء هذا الجمهور القاسي، حتى لو على حساب صحتهم الجسدية والنفسية".
ويضيف "ثقافتنا العربية للأسف لم تقم على احترام الاختلاف في الأجساد والأذواق، نحن لا زلنا نكافئ النموذج المثالي ونحط من قدر من يخالفه".
وبالرغم من قانون الجرائم الإلكترونية الصارم في الأردن وبعض الدول العربية التي بدأت باتخاذ خطوات لمحاربة التنمر الإلكتروني، إلا أن معظم التشريعات ما تزال عاجزة عن ملاحقة هذا النوع من الإيذاء المعنوي، خاصة حين يتم تمريره في قالب المزاح أو الرأي الشخصي.
وهنا، تؤكد الكيلاني أنه من الخطأ اختزال التنمر بأنه رأي صريح، لا يحق لأحد أن يقول لإنسان إنه "قبيح أو زائد الوزن أو غير مناسب للحياة العامة.. فهذا ليس رأيا بل عنف نفسي مباشر".
وتدعو الكيلاني إلى دمج التربية الإعلامية والرقمية في المدارس، وتعليم الأطفال والمراهقين كيفية التعبير عن آرائهم من دون تجريح، وكيفية استخدام المنصات بشكل آمن وأخلاقي.
ورغم خروج مؤثرات عربيات عن صمتهن، ليكشفن عن حملات تنمر تعرضن لها بسبب أجسامهن أو ملامح وجوههن، واعترفن بإجراء عمليات تجميلية فقط لكسب القبول والتخلص من الانتقادات بشكل يومي، وأن حياتهن ليست كما يتم تصويرها بشكل يومي، إلا أن أثر الجمهور يغلب الوعي في كثير من الأحيان.
وتبين الكيلاني أن الظهور على السوشال ميديا بات وظيفة للبعض تجلب الربح الكثير، ولأن محتوى البعض يتناول الحياة الشخصية، فعندما يناجون جمهورهم بتخفيف الانتقاد عليهم، يكون رد الفعل "أنتم من تنشرون حياتكم الخاصة فلا تعاتبون على رد الفعل ويصبح التنمر أعلى وأقسى".
في النهاية، يبقى ما يجب أن تتعلمه من حادثة سلمى تيبو وغيرها أن التنمر الإلكتروني ليس حرية تعبير، بل عنف رقمي يقتل ببطء أو دفعة واحدة، فخلف الشاشات هناك أرواح هشة تتأذى، وقلوب تنكسر، وأحيانا أجساد تدفع نحو الجراحة فالقبر، والسبب كلمة قيلت للضحك والمزاح أو لأن فلان صريح ويجد أن من حقه التكلم بصراحة.
وتشدد الكيلاني على أن "نكن لطفاء، فكل تعليق نكتبه، قد يكون القشة التي تقضي على قلب أحدهم".