ديمة محبوبة
عمان - "سكوتي أكثر من كلامي"، بهذه العبارة يصف السبعيني سالم حالته، مضيفا أنه لم يتوقع أن يتحول من رجل مليء بالحيوية والعمل، حاضر الفكر والحديث، إلى شخص يملأ الصمت يومه.
يجلس على شرفة بيته، ويقول بصوت خافت "أشعر أنني أعيش في محطة انتظار؛ الأولاد مشغولون، زوجتي رحلت إلى بارئها، والأصدقاء إما رحلوا أو أعياهم المرض ولا أستطيع زيارتهم".
الحاج سالم هو واحد من آلاف الوجوه التي تخفي خلف تجاعيدها قلقا متصاعدا. فمرحلة التقدم في العمر، التي طالما اعتبرت مرحلة الحكمة والسكينة، باتت لكثيرين مرادفا للوحدة والخوف، وأحيانا الاكتئاب. ورغم أن هذه المشاعر نادرا ما يعبر عنها، إلا أن الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين يصفونها بأنها "ظاهرة صامتة"، آخذة في الاتساع في الأردن.
الخبيرة النفسية سماح الرمحي، تؤكد أن التقدم في العمر يصاحبه حتما تغيرات كيميائية وهرمونية في الدماغ، خصوصا انخفاض هرموني السيروتونين والدوبامين، المرتبطين بالمزاج والطاقة.
وتقول "انخفاض هذين الهرمونين قد لا يؤدي فقط إلى الاكتئاب، بل يسبب اضطرابات القلق والخوف، مثل الخوف من الموت أو من العجز. والمشكلة أن كبار السن لا يربطون غالبا بين ما يشعرون به وبين الأسباب البيولوجية الكامنة".
وتتابع الرمحي "يأتينا كبار في السن يعانون من الأرق، القلق، فقدان الشهية، بكاء مفاجئ وعزلة، لكنهم لا يصفون ما يمرون به بالاكتئاب، إما بسبب الخوف الثقافي من التسمية، أو لأنهم يفسرونه على أنه مجرد ضيق من الحياة أو استياء من الأولاد، ما يؤدي إلى تأخر في التشخيص والعلاج". وتضيف "لا يقتصر الأمر على التغيرات الهرمونية فقط، إذ إن تراجع قوة الجسد يشكل عامل ضغط نفسي إضافيا".
يصف الحاج سالم كيف أصبح ذهابه إلى المسجد مرهونا بـ"حالة ركبته"، وكيف يشعر بـ"غضب داخلي"، حين يعجز عن حمل كيس خضار. ويقول "كنت أساعد الجيران، والآن أحتاج إلى من يساعدني، حتى طلوع الدرج صار عبئا علي وأفكر فيه كثيرا قبل أي خروج من المنزل".
وتظهر بيانات وزارة الصحة الأردنية، أن أكثر من 71 % من كبار السن عانوا من أمراض مزمنة خلال العقد الماضي، ما يفرض عليهم نمط حياة محدودا، ويجعلهم أكثر عرضة للعزلة. وفي هذا السياق، يؤكد الخبراء أن كبار السن يمرون بدرجات متفاوتة من الاكتئاب، خصوصا أولئك الذين يعيشون بمفردهم أو يعانون من إعاقة.
تقول نادرة (68 عاما) "ما يؤلمني ليس المرض، بل فقدان من حولي. توفيت صديقتان لي، وأختي، وزوجي. كأن الحياة تمحو كل ما كان مألوفا، والشعور الذي يصلني من المحيطين بي هو أنني كبرت وأني أنتمي لعالم آخر، فابنتي دائما ما تردد أن الزمان تغير، وأن ما كنت أفعله معهم لا يشبه ما يفعلونه مع أبنائهم".
ويؤكد اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين الخزاعي، أن العلاقات الاجتماعية تمثل مصدر دعم نفسي بالغ الأهمية للمسن، وانهيارها مع الوقت يحدث ما يشبه التمزق في شخصية الإنسان.
ويتابع "الشيخوخة ليست مجرد مرحلة عمرية، بل تجربة نفسية واجتماعية معقدة، وكلما ضاق محيط الفرد من الأصدقاء أو الأقارب، شعر بأنه متروك، ما يدفعه تدريجيا إلى الانسحاب الداخلي من الحياة".
وتشير المرشدة النفسية رائدة الكيلاني إلى أن انعدام الشعور بالدور، في كثير من الحالات، هو ما يدفع المسن نحو الانطفاء الداخلي والشعور بـ"شيخوخة القلب" وبأنه غير مفيد. تقول "كبار السن لا يؤخذ برأيهم، وأحيانا كثيرة تكون تصرفات الأبناء من باب الحرص على راحة الوالدين، لكن الشعور الذي يصلهم عكس ذلك تماما".
ووفق قولها، فإن الانفصال عن الأدوار الاجتماعية، مثل العمل، أو الأبوة النشطة، أو حتى المشاركة في المجتمع، يجعل كبار السن يشعرون بأن الزمن تجاوزهم". وتشدد على أهمية إبقائهم في موقع التأثير، من خلال السماح لهم باتخاذ قراراتهم الخاصة، وتعزيز مشاركتهم في تفاصيل الحياة اليومية.
وتؤكد الكيلاني أن الحالة النفسية للمسن قابلة للتحسن، حتى في المراحل المتقدمة من العمر، مشيرة إلى أن العلاج الدوائي قد يكون مفيدا في بعض الحالات، لكن العامل الأهم هو "الدعم الأسري والاجتماعي، وإشراك كبار السن في أنشطة مجتمعية، وتنظيم زيارات دورية لهم، مع احترام اختياراتهم ووجهات نظرهم".
وتلفت إلى أن المطلوب اليوم هو تبني الدولة خططا وطنية شاملة تعترف بأن الشيخوخة ليست مجرد قضية طبابة أو راتب تقاعد، بل تجربة نفسية وروحية واجتماعية مركبة تحتاج إلى مقاربات متعددة الجوانب.