تغريد السعايدة

بألوان زاهية وملامح قريبة من الواقع؛ عاشت أجيال على متابعة أفلام الكرتون القديمة، وحتى بداية الألفية الجديدة، ضمن قوالب واضحة المعالم ووجوه بسيطة في الحجم والشكل، ما تزال ذكراها حاضرة في وجدان الملايين حتى الآن.

ومع اجتياح عصر الديجيتال لمختلف مناحي الحياة، انعكس ذلك على البرامج الكرتونية المخصصة للأطفال، حيث انطلقت مئات المسلسلات بألوان متداخلة وشخصيات بعيدة عن الواقع؛ رؤوس ضخمة فوق أجسام صغيرة، عيون كبيرة، وحواجب تخرج عن معالم الوجه، إضافة إلى ألوان شعر وأشكال بعيدة كل البعد عن الواقع.

وبين تداخل الأجيال في متابعة هذه البرامج الكرتونية، يقف الأهل ممن نشأوا على الكرتون "الكلاسيكي" مستغربين من تلاشي البساطة بالقديم والمبالغة والتكلف بما يعرض من جديد.

وبينما تداخلت الأجيال في متابعة البرامج الكرتونية، وجد الأهل ممن نشأوا على أفلام "الأنيميشن الكلاسيكية" الواضحة المعالم أنفسهم يحاولون البحث عن بدائل مناسبة للأبناء. فقد اعتادت الأجيال الجديدة على مشاهد صارخة بالأشكال والألوان، وهو ما حذر منه العديد من المختصين لما له من تأثير في تشكيل خيال الطفل بطريقة تختلف كثيرا عن الواقع الذي كانت تعكسه برامج الأطفال سابقا.

ووفقا لدراسات متخصصة في مجال الرسوم المتحركة، فإن الرسوم كانت ترسم يدويا بالكامل حتى ما قبل عام 1960، إلى أن أسهم ظهور الحواسيب المبكرة في إحداث ثورة بصناعة الكرتون، حيث أنتج أول فيلم رسوم متحركة مولد بالحاسوب بعنوان "الطائر الطنان" العام 1967.

واستمر التطوير في صناعة الرسوم المتحركة، حتى شهد عام 2024 طفرة نوعية في تقنياتها، وفقا لمقال تكنولوجي نشر في أحد المواقع العلمية، أشار إلى "إدخال تقنيات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، وتقنيات التقاط الحركة الحديثة، بالإضافة إلى أساليب مبتكرة تدمج بين الرسوم الثنائية والثلاثية الأبعاد، مما يشكل ملامح مستقبل الرسوم المتحركة".

ومع ذلك، يبقى التعلق الأكبر لدى أجيال كثيرة بتلك الرسوم التقليدية ثنائية الأبعاد، كما في أفلام ديزني القديمة، التي حفرت مكانها في الذاكرة لسنوات طويلة.

وما بين هذا وذاك، يقف الشخص متسائلا عن أثر البرامج الكرتونية المخصصة للأطفال على واقعهم، رغم أن الملايين حول العالم ما يزالون يتابعونها.

طبيعة الرسوم القديمة كانت تحمل أبعادا عاطفية، تجعل الطفل يتعلق بالشخصيات الكرتونية، سواء كانت "بطلا" أو "بطلة"، ويتتبع حكاياتهم، ويحاول تقليدهم حتى برسم ملامحهم على الدفاتر، كما كانت تفعل بثينة مشهور في طفولتها.

تقول بثينة، وهي أم لخمسة أبناء، إن بعض الشخصيات الكرتونية القديمة كانت بالنسبة لها رمزا للجمال والرقي في اللباس والكلام وتفاصيل الحياة. كانت تحب رسم شخصياتها المفضلة مثل "سالي" بلباسها الأنيق وملامحها الرقيقة، أو "ساندي بل" بطبعها القوي وبساطتها وعفويتها، إلى جانب البيئات القريبة من الواقع التي كان يتنقل فيها أبطال الكرتون حينها.

وتضيف بثينة أنها، قبل عدة سنوات، بدأت تشعر بالاستغراب على حد وصفها من ملامح الشخصيات الكرتونية الحديثة التي يتابعها أطفالها، حيث تبدو الوجوه غير متناسقة، والرؤوس ضخمة مقارنة بالأجساد، والشعر يغطي أغلب ملامح الوجه في محاولة لإعطاء شعور الغموض على الشخصية. فضلا عن الحركات السريعة والمصطلحات المعقدة التي يصعب على الأطفال فهمها، لا سيما في البرامج التي تدور حول منافسات الفوز بألعاب إلكترونية.

تقول المتخصصة في رسوم الأطفال والكتب التعليمية، أماني يوسف، في تعليقها لـ"الغد"، إن الرسوم الكرتونية الحديثة تميل إلى الغرابة والأسلوب غير الواقعي، ويعود ذلك لعدة أسباب، أبرزها سهولة الإنتاج؛ إذ مكنت الأساليب الرقمية البسيطة من إنشاء برامج كرتونية غريبة بطريقة أسرع وأقل تكلفة، مقارنة بالجهد الكبير الذي كان يبذله من يرسمون الكرتون التقليدي لإنتاج تفاصيل دقيقة وأقرب للواقعية يدويا.

وتضيف يوسف أن السعي نحو التميز وسط كثافة الإنتاج ساهم أيضا في انتشار الرسومات غير المنطقية، حيث تحاول شركات إنتاج الرسوم الكرتونية خلق أسلوب بصري فريد يسهل تمييزه وسط الزحام البصري.

وترى يوسف أن تغير الذوق العام لعب دورا كبيرا؛ فالأجيال الجديدة، التي نشأت في عصر الإنترنت والديجيتال، اعتادت على الأنماط البصرية السريعة وأصبحت تفضل الرسوم الغريبة البعيدة عن الواقعية أو التقليدية.

كما أن المحتوى الكرتوني بات يميل إلى الرمزية والرسائل النفسية والفلسفية، وهو ما تخدمه الرسوم الغريبة أكثر من الواقعية الكلاسيكية.

ورغم وجود بعض الغرابة في برامج الكرتون القديمة، كما في القصص التي تناولت البطولات الرياضية والتي كان عبدالله برهان يتابعها بشغف، إلا أن تلك الأعمال تظل أفضل بمراحل عديدة من كثير من البرامج الحالية، التي تغيب عنها عناصر الجذب الحقيقية وتميل إلى السرعة والتشتت، وتقدم رسومات قد تصل أحيانا إلى حد الرعب.

يقول عبد الله، الذي تابع في طفولته برامج مثل "كابتن ماجد" و"الهداف"، و"أبطال الملاعب"، وغيرها من الأعمال ذات الرسوم الهادئة والتفاصيل البسيطة والأحجام المتناسبة مع الجسم، إن ما يشاهده اليوم مختلف تماما؛ إذ تغيب عن البرامج الحديثة التفاصيل الإنسانية والمشاعر التي كانت حاضرة في السابق، حيث يتركز المحتوى على منافسات شديدة وعنيفة، تنعكس على الرسومات الغريبة، البعيدة على حد وصفه عن "طفولتنا البريئة".

وفي هذا السياق، توضح أماني يوسف أن الرسوم الكرتونية سابقا كانت تخضع لقيود ثقافية وتقنية أكبر، بينما يتمتع الفنانون والمخرجون اليوم بحرية أوسع لتجربة أفكار وأساليب غير تقليدية، مستفيدين من التطور التكنولوجي في أساليب الإنتاج.

وتشير يوسف إلى أن التقنيات الحديثة وبرامج الرسوم المتحركة سهلت خلق شخصيات تتحرك بطرق غريبة وتكرار الحركات بسهولة، مما سمح بالاعتماد على أساليب بصرية خفيفة وسريعة بدلا من التركيز على أمور واقعية.

وترى أن انتشار الديجيتال فتح الباب أمام تجريب تصاميم حديثة وغير مألوفة، لم يكن تحقيقها ممكنا عبر الطرق التقليدية اليدوية. كما أن الإنترنت وسرعة استهلاك المحتوى دفعا شركات الإنتاج إلى التركيز على جذب الانتباه عبر الحركات السريعة والألوان الفاقعة.

ولا تنفي أماني يوسف حدوث تغير كبير في فلسفة الطفولة كما تعكسه الرسوم الكرتونية. ففي الماضي، كانت النظرة إلى الطفل تقليدية؛ ينظر إليه كمتعلق يحتاج إلى التهذيب والتوجيه والتعليم، وكان الهدف من أغلب الرسوم الكرتونية هو غرس الأخلاق والقيم. لذلك جاءت الرسوم القديمة واقعية، تحمل رسائل أخلاقية ، وتقدم في قالب معين، مع أسلوب رسم قريب من شكل الحياة الحقيقية، لتسهيل إيصال الفكرة وتعزيز الفهم لدى الطفل.

أما اليوم، فتقول يوسف إن النظرة الحديثة اختلفت؛ إذ ينظر إلى الطفل كشخص واع وذكي، مليء بالمشاعر والأفكار، وأحيانا يصور في الكرتون كأنه أكثر حكمة وفهما من الكبار. ومع تطور أدوات التعبير الفني أصبحت الرسوم وسيلة للتعبير عن مشاعر الطفل وداخله، مما فتح المجال لأساليب أكثر جرأة، وتصاميم غريبة وتجريدية تواكب الخيال الحر والاهتمامات النفسية والاجتماعية للأطفال.

لم تعد الرسوم تقتصر على التعليم فحسب، بل صارت مساحة للتعبير والترفيه وطرح مواضيع عميقة مثل الهوية، القلق، تقبل الذات والعلاقات الاجتماعية. وتغيرت أساليب الرسم تبعا لذلك؛ إذ لم تعد مرتبطة بالواقعية بل أصبحت رمزية وغريبة، وأحيانا مجردة لتعكس العالم الداخلي للطفل وخياله، مستندة إلى قدرته العالية على فهم الرموز والاستعارات البصرية.

وفيما يتعلق بتأثير الرسوم الغريبة والطريفة على الحس الجمالي للأطفال، ترى يوسف أن هناك جانبا إيجابيا يتمثل في توسيع الخيال لديهم، وتعليمهم أن الجمال ليس دائما تقليديا أو منطقيا، مما يعزز تقبلهم للتنوع وقدرتهم على رؤية الجمال في الأشكال المختلفة، حتى لو لم تكن متناسقة أو جميلة وفق معايير الكبار، مما يطور الذوق البصري العصري لديهم.

لكن من الناحية السلبية، تحذر يوسف من أن غياب التوازن قد يؤدي إلى ضعف التذوق للجمال، فإذا لم يتعرض الطفل سوى للرسوم الغريبة، فقد يفقد تقديره للجمال الواقعي والتفاصيل الدقيقة في الفن، خاصة في بعض الرسوم التي تركز على الشكل الطريف والكوميدي على حساب المعنى، مما قد يحد من قدرة تقدير العمل الفني كقيمة عميقة وراقية.

وتخلص يوسف إلى أن رسامي الكرتون اليوم يلجأون للطرافة والغرابة كأدوات لشد الانتباه؛ فالأطفال يعيشون وسط كم هائل من الخيارات البصرية، والغرابة أصبحت وسيلة للتميز. فالشكل الغريب يعلق أسرع في الذاكرة ويمنح العمل حضورا أقوى

ومع الحرية الفنية الواسعة التي يتمتع بها الفنانون في الوقت الحالي، لم تعد هناك قوالب صارمة بل بات التعبير عن الأفكار يتم بطرق أكثر جرأة وتنوعا.

JoomShaper