ديمة محبوبة

عمان - ينشر يوميا، في عالم تتسارع فيه وتيرة المحتوى وتتصاعد فيه شهية المتابعين لما يكشف الغطاء عن التفاصيل الشخصية، حتى تحولت خصوصية الإنسان إلى مادة للاستهلاك.

فما كان يوما محرما على العلن، بات معروضا بجودة عالية ومن زوايا تصوير متعددة؛ مرة تحت عنوان الواقعية، ومرة أخرى بشعار المشاركة الصادقة، دون الالتفات لما يزرع في أذهان الأطفال والمراهقين الذين يراقبون بصمت.

اليوم، تنشر فيديوهات و"ريلز" من داخل الغرف الخاصة، واعترافات بعلاقات أسرية كان الحياء سمتها، ومشادات زوجية ولحظات ولادة أو بكاء أو مرض، حتى غدت هذه المشاهد يوما بعد يوم من المألوف على منصات التواصل الاجتماعي.

والمؤسف أن الغاية منها، في كثير من الأحيان، لا تتعدى كسب التفاعل أو الوصول إلى "الترند"، بينما يدفع الثمن من رصيد القيم والخصوصية.

يرى تربويون أن الطفل يتعلم من هذه المشاهد أن لا قدسية لحياته الخاصة، وأن عرض التفاصيل الخاصة على العلن لا يثير الاستغراب، بل وكأنه وسيلة للقبول أو الشهرة.

التربوية والمرشدة النفسية رائدة الكيلاني تحذر من هذه الظاهرة، وتصفها بـ"الانكشاف غير الواعي"، مشيرة إلى أن الطفل الذي يشاهد أهله أو المؤثرين وهم يروون تفاصيل دقيقة عن حياتهم الشخصية، يعتاد على مفهوم مضلل، مفاده أن الجسد لا يحتاج إلى صون أو احترام، بل يتحول إلى مادة قابلة للعرض، يقاس حضورها بعدد المشاهدات والتعليقات.

وتضيف الكيلاني أن هذا التشويش يربك التركيبة النفسية للأطفال، ويجعلهم عاجزين عن التمييز بين ما يقال وما يجب الحذر منه في مرحلة النمو، فيتكون لديهم شعور غير صحي بأن الحديث عن الجسد والانكشاف الشخصي أمر عادي ومقبول.

وفي خضم هذا "الانحدار المفاهيمي"، كما وصفته الكيلاني، لا تقتصر المشكلة على الكبار الذين يجعلون حياتهم على الملأ، بل تمتد لتشمل أطفالهم الذين يتم الزج بهم في المحتوى، مستذكرة كم من طفل بكى، أو مر بلحظة ضعف أو خجل، ثم وجد نفسه بطلا لمقطع ساخر منتشر على نطاق واسع.

وتضيف الكيلاني؛ يتحول الطفل إلى مادة دعائية، وإلى منتج رقمي يستهلك لأجل التفاعل، من دون إذنه، وربما من دون إدراكه.

وتوضح أن من الصعب تخيل الأثر طويل الأمد لهذا الاستغلال، لا سيما عندما يكبر الطفل ويكتشف أنه لم يعامل ككائن له مشاعر وحدود، بل كوسيلة لكسب الجمهور.

اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين خزاعي يرى في هذا الانكشاف العلني تحولا جذريا في القيم المجتمعية، مؤكدا أن الخصوصية لم تعد من المسلمات، بل أصبحت خيارا شخصيا لدى البعض، يتخلى عنه بسهولة لأجل "الترند".

ويضيف خزاعي أن هذا الواقع يربك النمو الأخلاقي للأطفال، ويخلق أجيالا ترى في انتهاك الخصوصية سلوكا مشروعا.

فعندما يتم عرض الحياة الخاصة على مرأى ومسمع الجميع، وتتداخل الحدود بين الخاص والعام، تصبح فكرة احترام الذات موضع شك، بل يعاد تعريفها وفق معايير رقمية سطحية.

وفي ظل هذا الزخم، تغيب النية التوعوية أو القيمة التربوية عن أغلب المحتوى المتداول، فبدلا من استخدام المنصات لطرح قضايا مجتمعية أو تجارب ذات مغزى، يتحول الكثيرون إلى رواة لأدق تفاصيل حياتهم، معتقدين أن مشاركة الألم والفرح على العلن هو شكل من أشكال الجرأة والواقعية، بحسب الكيلاني.

وتقول الكيلاني "الواقعية لا تعني الانكشاف، بل تعني التعامل مع الواقع بوعي وذكاء، ومعرفة أن لكل شيء سياقه وحدوده. و أن أخطر ما يحدث اليوم هو تسطيح هذه الحدود أمام الأطفال، مما يزرع فيهم اعتقادا أن حياتهم أيضا يجب أن تعرض، وأن الصمت أو الخصوصية نقص وخارج عن المسار".

وتطرح الكيلاني تساؤلات للتفكير بها من قبل من يستخدم السوشال ميديا لمراجعة الذات، "هل نملك وعيا رقميا حقيقيا؟ أم أننا نستهلك وننتج محتوى دون حساب لأثره؟".

وتلفت إلى أن الوعي الرقمي لا يعني فقط معرفة التطبيقات أو التحكم في الإعدادات، بل يعني فهم ما يقال وما يعرض وما يصور، وتقدير تأثيره على العائلة والمجتمع، خاصة الأطفال الذين يصوغون فهمهم للعالم من خلال كل ما يرونه أمام أعينهم.

وأخيرا، تتفق الكيلاني مع خزاعي بأن اليوم نحن في زمن لم تعد فيه الخصوصية حقا مكتسبا، بل معركة يجب خوضها، والسكوت عن انكشاف الأسرار تحت عنوان الحرية الشخصية هو منافي للوعي الجمعي.

فكل لحظة تعرض، وكل طفل يظهر من دون وعي، وكل اعتراف أمام الكاميرا يتم مشاركته يدخل في إعادة صياغة معنى الخصوصية لدى الجيل القادم.

JoomShaper