د. سالم تالحوت
الأبناء هبة ربانية ونعمة يعطيها لمن يشاء، وينزعها ممن يشاء. قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ . أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].
وهذه الصيغة التي جاءت بها الآيتان الكريمتان تضعنا أمام قضية هامة؛ فالله تعالى حينما يَهَبُ هذا الذكورَ فقط، ويهب تلك الإناث فقط، ويهب أولائك الذكور والإناث، ويجعل القلة القليلة عقيمة؛ فلحكمة ربانية هي أن الأبناء في المجتمع أبناء الجميع، يتحملون المسؤولية تجاههم، وهم في نهاية المطاف عبادُ الله، وهم من عطائه، ينبغي على كل المجتمع أن يقوم بفريضة تربيتهم الصالحة.
وتصبح وفرة الشباب نعمة حينما تتزين بها الحياة المجتمعية، إلا أن هذه الزينة مرتبطة بالشباب الصالح.
الشباب زينة الحياة
يعتبر الشباب نعمة من وجهين؛ يتجلى الأول في دور التكثير والتزايد، فالمجتمعات التي اتخذت مواقف سلبية من التوالد والتكاثر تستعجل معاناة الشيخوخة؛ لذلك كان التكاثر الإيجابي محموداً. أما الوجه الثاني الإيجابي فيتمثل في دور الشباب في تزيين الحياة وتجديد الدماء فيها؛ إذ لا طعم للحياة دون أبناء وشباب..

أولاً: بالشباب الصالح يتكاثر المجتمع:
ظهرت في أوائل القرن العشرين نظرية (مالتوس) وتلميذه (ريكاردو) التشاؤمية من التزايد البشري، وقد اعتمدت هذه النظرية مبررات في تخويف البشرية من التزايد، ويعتبر الجانب الاقتصادي المرتكز الأساسي للمقولة المنادية بتقليص التزايد البشري!

وقد بنى (مالتوس) وتلاميذه النظرية على اعتقاد أُسِّسَ على أن الموارد الطبيعية تتزايد بمتوالية حسابية، في حين تتزايد الموارد البشرية بمتوالية هندسية؛ مما يخلق هوة كبيرة بين عدد الساكنة السريعة التزايد والحاجيات الغذائية البطيئة النمو.

ويعتقدون أن هذا السيناريو سيضع البشرية أمام ضرورة النقص من البشرية بتشجيع نشر الأوبئة، واصطناع الحروب للعودة إلى التوازن الأمثل بين الحجم السكاني والموارد الطبيعية.

وقد كسبت هذه المدرسة الجغرافية الاقتصادية الكثير من الأنصار، إلا أن التاريخ والدراسات التفاؤلية الحديثة في الإنتاج الغذائي فنَّدت هذه النظرية التشاؤمية، خصوصاً حينما تبين أن أجزاء كبيرة من المعمورة لم تبلغها بعد أقدام بني البشر، وهناك كثير من الأراضي الصالحة للإنتاج الزراعي والرعوي بالبلدان الزراعية الكبرى ظلت بائرة إلى اليوم؛ فالولايات المتحدة الأمريكية (البلد الزراعي الأول) لم تستطع استغلال أكثر من (50%) من أراضيها الصالحة للإنتاج الزراعي؛ مما عرَّض النظرية السوداوية للاندثار في مهدها.

وكانت أولى الضربات التي تلقتها انطلقت من داخلها؛ إذ لم يستطع معتنقوها الوفاء لمبادئهم؛ فتزوجوا وأنجبوا أبناء، مسايرين لفطرة البشر، كما غاب عنهم أن بإمكان الإنتاج أن يتحسن ويتطور -بتطوير أساليب الإنتاج- بشكل يفوق نمو البشر.

فقد مكَّن الله تعالى البشرية من أسباب التوالد الطبيعي؛ ووقاهم من العوامل المسبِّبة لانقراض نسلهم، حين تضعف عوامل الوقاية والحماية: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف:86]. فالله تعالى يُذكِّر البشرية بنعمة الكثرة؛ لتعتبر بآفة القلة، وتستنتج من الماضي، وتتوقع في المستقبل آثارها السلبية في قلة سواعد الإنتاج والدفاع..

ونرى اليوم أن الضعف الاقتصادي لكثير من الأمم يعود إلى قلة وسلبية نموها الطبيعي في الأربعين سنة الماضية، وما أنتجه ذلك من ندرة اليد العاملة والخبرة التقنية.. وفي إطار الصراع من أجل البقاء اضطرت إلى استيراد العمالة بتكاليف مادية وقيمية غير يسيرة الانعكاسات.

والكثرة والتكثير لا تنحصر في حركة العدد، وإنما تتعداه إلى كل ما يرافق الوفرة المحمودة، التي تجعل المجتمع رائداً، وتوازن في تقدم القيم المادية والروحية؛ أي الانتقال من مجتمع قليل الحيلة كلالة وعالة على غيره، إلى مجتمع سليم الذوق، رائع المشاهد، راقي الشهود والريادة الحضارية المزدانة بالشباب، يرث الرسالة المجتمعية.

ثانياً: بالشباب الصالح تزدان الحياة:
والمقصد من هبة الأبناء تزيين الحياة، وجعل الكائن البشري مقبلاً على حياة زيَّنها سبحانه بالبنين: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]. إذ من دوافع العمل تبرز الرغبة في ترك ثروة مادية ومعنوية يرثها الأبناء. هذه الزينة التي لا تتم، والسعادة التي لا تدوم إلا بالبنين، هذه النعمة تزين الحياة؛ أي إن فوائدها على الإنسان كثيرة؛ مما يجعل الطلب عليها أيضاً كثيراً.

وبفقدان هذه النعمة تذهب حلاوة الحياة؛ مما جعل الإنسان بما فيه أنبياء الله عليهم السلام -بعد أن حُرموا الولد- يُقبلون على الله يدعونه متوسلين إلى ما لديه من عطاء، سائلين أن يهبهم من فضله. وهذه العلامات الطيبة هي التي جعلت العبد يقابل النعمة بالحمد والثناء.

طلب الشباب الصالح
ينطوي طلب نبيي الله تعالى إبراهيم وزكريا عليهما السلام على سر، هذا السر يكمن في كونهما متوافقان في نفس المغزى؛ فلا زينة للحياة بأبناء سوء وفساد؛ لذلك فإن الطلب ونداء الله واضح، لا يعني غير الذرية الطيبة والنسل الصالح الحليم، الذي يقوم بأعباء الرسالة والدعوة إلى الله تعالى.

أولاً: طلب الذرية الطيبة:
الإصلاح فرع عن الصلاح، والصلاح فرع عن نوع التربية المتاحة، والتربية فرع عن تصورنا لمستقبل الأبناء. وما لم يكن تصورنا نابعاً من مرجعية واضحة، وما لم نكن ممارسين واعين وجادين فيما ندعو إليه أبناءنا، تظل المسافة بيننا وبين عملية الإصلاح بعيدة الشقة.

يؤكد التاريخ أنه يندر في المجتمع وجود أبوين أعلنا زهدهما في الأبناء، واحترفا الدعاية لهذا الاختيار. بل إن الزواج يَعتبر إنجاب الأبناء أساس مشروعيته ومبرره، وليس في البشرية عاقل يرفض الأبناء، بل إن الأفراد القلائل الذين حُرموا هذه النعمة لجأوا إلى أساليب تعويضية كتعدد الزوجات، وتبنّي اليتامى والمشرَّدين ومجهولي الأبوين والكلاب والقطط.. لكن ذلك لا يبلغ بهم ما يبلغه الأبناء من أصلابهم.

وجرياً وراء تلبية هذا الطلب الوفير، بلغ الطب اليوم درجة عالية في تقنيات التقليل من معاناة المصابين بالعقم، ومن الآباء من صبر على الولادة بالعملية القيصرية مرات عدة، وتكبَّد تكاليف تنمية الأجنة بالأنابيب، وتعدَّى الأمر السبل المشروعة ليظهر ما يسمى بظاهرة (كراء الأرحام)، وسلك طريق الشعوذة!

وكل هذه المحاولات رافقتها صعوبات صبر عليها الناس، أملاً في استقبال ولد يُزيِّن حياتهم، ويُحوِّلها من واقع الوحدة: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] إلى واقع الطيبوبة؛ فالأب والأم لا يتذوَّقان طعم الحياة -مهما بدت طيبة- دون أبناء يكسرون عليهم رتابة الوحدة، ويُبدِّدون روتين الحياة.

فزكريا عليه السلام صبر طويلاً، لكنه لم يطق حياة بدون ذرية؛ فهرع إلى الله عز وجل، وهو يعلم أن زوجته عاقر، وأنه كهل.. لكن توجه إلى الذي خلقه من لا شيء، و{نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً . قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً . وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 3-6]. ولكنه موقن بأن طلبه لا يُعجز الله تعالى.

وحينما نتجه إلى الله فإننا لا نطلب منه الخبيث، وإنما نطلب منه سبحانه الطيب؛ لذلك فإن الزينة المطلوبة أودعها الله تعالى في الذرية الطيبة، وليس في الذرية السيئة.

ثانياً: تعجيل الله بالأبناء الصالحين:
يقول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[البقرة:186]. فهو سبحانه قريب من عباده يجيب سؤالهم، وإجابته إما عاجلة في الدنيا، وإما أنها تُلبّى في الدنيا ولكن متأخرة، وإما أنها مدَّخرة إلى الآخرة تمحو عنه ذنوبه.

ولم نجد في القرآن الكريم طلباً يخصُّ الأبناء أخَّره أو ادَّخره الله تعالى، وإنما كانت إجابته سبحانه على وجه الاستعجال. ونلمس ذلك في حالات عدة؛ فقد استجاب الله تعالى لطلب نبيه زكريا، بعد أن بلغ من الكبر عتيّاً، حينما طلب من الله تعالى أن يهبه من يرثه ويرث من آل يعقوب؛ فبشره الله تعالى عاجلاً بغلام: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} [مريم:7].

وقد استجاب الله تعالى لطلب إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]. وعجَّل الله بالإجابة: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101]؛ أي إسماعيل. بل إن إجابة الله تعالى أكبر وأوسع من طلب عبده، فهو وفير النعم، يهبها لعباده بسخاء. لذلك لم يتوقف الله تعالى عند إجابة نبيه إبراهيم بولد واحد، وإنما وسع سبحانه في نعمه على خليله، إذ عجل في تكثير أبنائه الصالحين: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء:72].

بيَّنا مما سبق أن الشباب المطلوب هو تلك الذرية الطيبة، وأن الطلب الموجه إلى الله تعالى كان واضحاً، والرجاء انصب على استقبال الأبناء الصالحين وليس غيرهم، وأن الطابع البريدي لهذا الملتمس النبوي ذرية طيبة؛ لذلك فإن الجواب الرباني كان مختوماً بعطاء لم يجعل له من قبل سميّاً، وأن الجواب كان رحمة، انبعثت وفاحت مع غلام حليم. وهي نعمة قد تضاعف نوافلها بعد قرار العين، وليس ذلك عزيزاً على رب كريم لا ينتظر من عباده غير مقابلة النعمة بالشكر والحمد والثناء.

مقابلة نعمة الشباب بالحمد
تستبشر النفوس حينما تُرزَق بنعمة الولد، وتلهج الألسن بالحمد والثناء على صاحب هذه النعمة المسداة. وكما نهرع إلى الله عاجلين مستمرين ملحِّين في الطلب حتى يلبي الرجاء؛ فإننا في حاجة إلى مقابلة تعجيل الله سبحانه بالإجابة لطلبنا بعجلة في حمده وثنائه وشكره؛ فيكون عملنا كله شكراً: {اعْمَلُوا آلَ دَاودَ شُكْراً} [سبأ:13]، ودعاؤه للنعمة الغائبة، سائلين عطاءه، شاكرين له وحامدين على النعمة الحاضرة وسائلين إدامتها.

بنعمة الشباب الصالح تقرُّ العين، كما جاء على لسان إبراهيم عليه السلام، وهؤلاء هم البنون الصالحون الحلماء الحكماء العلماء.. هم الذين تقرُّ بهم العين. وهذه العلامة الطيبة تبسط اطمئناناً واستقراراً عجيباً، يجعل العبد يقابل نعمة ربه بالحمد والثناء قائلاً: {الْحَمْدُ لله الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39]. فيزداد انسجامه مع الكون، ويضمن بقاء ريحه، ويستمر نوعه متفاعلاً مع باقي مكونات الكون.

واستجابة الله للطلب الطبيعي للبشرية جمعاء التي يقول لسان حالها: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128]، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] يضمن إعمار الكون. فالأم تجد من يخلفها حينما تهن في خدمة الأب، والأب حينما يهرم يجد من يخلفه، والعالم يترك من يعمر منبره ومحرابه، الفلاح في حقله والصانع في مصنعه والعامل في معمله.. ويخدمه، ويطور حرفته، فلا يخاف أن يرثه من يعبث بميراثه المادي ويضيع تركته المعنوية.

وحينما يستيقن الإنسان من مقاصد هذه النعمة؛ فإن نفسه لا تبعثه ولا تراوده في التفريق بين ما يهبه الله تعالى من ذكران أو إناث.

المصدر:شبكة كافور

JoomShaper