ربى الرياحي

عمان - في ذاكرة كل ابن يقبع وجه الأب ذلك الذي يفترض أن يكون ملاذا وسندا ومصدر أمان. لكن ماذا لو كان هذا الوجه هو أول من شرع أبواب الخوف؟ ماذا لو كانت اليد التي أمسكت بك أول مرة هي ذاتها التي تدفعك إلى نقطة الشك في نفسك؟ الأب هو ذلك الذي يخلط بين القسوة وبين السيطرة وفرض الرأي مهما كان.

يكبر الطفل وهو يحمل شعورا غامضا بالذنب، وكأن عليه دائما أن يثبت أنه جيد بما يكفي ليكون محبوبا.

وقد يشكل هذا الأب عبئا نفسيا وثقلا عاطفيا في حياة أبنائه ليس بسبب انعدام الحب والاهتمام ولكن بسبب الطريقة التي يظهر بها الحب فيستخدم تأثيره على الأبناء بصورة سلبية، فأحيانا قد يكون مفرطا في التدخل في حياتهم يغمرهم بتوقعات لا يستطيعون تحقيقها مما يجعلهم يشعرون دائما بالعجز أو الذنب. أو قد يكون متحكما عاطفيا يستخدم مشاعر الذنب أو الخوف كأداة للسيطرة على أطفاله فينتج عن ذلك كله علاقة مشوهة وغير صحية.

وأيضا قد يكون الأب متهربا من مسؤولياته العاطفية يولي أبناءه اهتماما سطحيا بينما يتجاهل احتياجاتهم الحقيقية من الحب والحنان والتفهم. الأب بتصرفاته "السامة" لا ينتهي دوره عند مرحلة الطفولة بل يترك أثره المؤلم في أعماق النفس ويظهر ذلك في العلاقات في الخوف من المواجهة في الحاجة المستمرة للقبول وأحيانا في صمت ثقيل لا يعرف سببه.

لذا فإن الطفل الذي يكبر في ظل أب لا يرى في الأبوة سوى القمع والتجريح والصراخ، لا يتعلم كيف يحب نفسه يكبر وهو مشوش في فهمه للحب لكونه تعلمه أول مرة من يد تؤذي ونظرة تجرح.

أما الندوب التي يسببها هذا النوع من الآباء فهي لا ترى بالعين وإنما تنعكس في علاقة الأبناء بأنفسهم وبالآخرين كثيرون منهم يعانون من جلد الذات رهاب القرار أو يختنقون بإحساس دائم بأنهم لا يستحقون شيئا.

ورغم مرور الوقت يبقى صوت هذا الأب حاضرا وذلك بصدى أفكاره داخل رؤوس أبنائه، وهنا تكمن المعركة الحقيقية تتطلب شجاعة كبيرة من الأبناء واعترافهم بتأثيره السلبي على حياتهم في بعض الأحيان قد يحتاجون إلى اللجوء إلى الدعم النفسي أو العلاج لتجاوز الجروح العاطفية التي خلفها هذا الأب في شتى تفاصيلهم. التحرر يبدأ بالإدراك ثم القبول ليكون بعد ذلك التغيير نحو علاقة صحية أكثر توازنا واحتراما للذات.

تبين الاستشارية النفسية والأسرية والتربوية حنين البطوش أن الأب السام هو مصطلح يُستخدم لوصف أب يمتلك نمطًا من السلوكيات المستمرة التي تلحق الضرر بصحة أبنائه النفسية والعاطفية، هذه السلوكيات ليست مجرد أخطاء عابرة في التربية، بل هي أنماط متكررة تؤدي إلى شعور الأبناء بالخوف، والذنب، والالتزام المرضي، وتترك لديهم ندوبًا عاطفية عميقة.

ليس بالضرورة أن يكون هذا الأب، عنيفا جسديًا أو يصرخ دائمًا، بل هو الذي يُمارس الأذى العاطفي أو النفسي بشكل متكرر، سواء عن وعي أو دون وعي، ويُقابل احتياجات أبنائه بالتجاهل، أو القسوة، أو التقليل، أو السيطرة المفرطة. هو الأب الذي يحوّل التربية إلى ساحة نقد، والحوار إلى تهديد، والحب إلى شروط… فتضيع الأبوة الحانية، ويحل محلها الشعور بالثقل والخوف والانكسار.

ووفق البطوش يتسم هذا الأب بجملة من الصفات البارزة التي تجد بيئة مؤذية لأبنائه، فهو غالبًا ما يتمحور حول ذاته بنرجسية متجاهلاً احتياجاتهم العاطفية، ويمارس سيطرة متسلطة تحد من استقلاليتهم واحترام آرائهم، كما يوجه لهم نقدًا مستمرًا يقوض ثقتهم بأنفسهم ويقلل من شأن إنجازاتهم، وقد يلجأ إلى العنف اللفظي والعاطفي عبر الإهانات والصراخ والتلاعب، يفشل في توفير الدعم العاطفي اللازم لأبنائه ويتجاهل حدودهم الشخصية، كما يتميز بتقلب المزاج وعدم الاتساق في سلوكه، ويضع عليهم توقعات مثالية غير واقعية، ولا يتوانى عن استخدام التلاعب بشتى أنواعه للسيطرة عليهم، ويتنصل من مسؤولية أفعاله بإلقاء اللوم على الآخرين، وكثيرًا ما يقارن بين الأبناء بشكل سلبي ويربط حبه وتقديره لهم بإنجازاتهم، ليبني بذلك جوًا من التوتر والخوف والقلق يؤثر سلبًا على نموهم النفسي والعاطفي على المدى الطويل.

يمتد التأثير ليترك بصمات نفسية مستمرة في حياة الأبناء، كما تبدأ بانعدام الأمان العاطفي، حيث يشعر الطفل أن الحب مشروط ومهدد بالرفض في أي لحظة، ما يجعله يعيش في توتر دائم، هذا الإحساس يترافق مع اضطراب في الهوية وتراجع في الثقة بالنفس، نتيجة التحقير المستمر والمقارنات المؤذية والتشكيك في القدرات، مما يزرع في الطفل شعورًا بأنه لا يستحق الحب أو النجاح.

وعلى المستوى العاطفي، تبين البطوش أن الأبناء يعيشون في قلق وتوتر دائمين خوفًا من ردود فعل الأب السلبية، وهو ما قد يتطور إلى اضطرابات قلق أو اكتئاب، وقد يكبتون مشاعرهم لتجنب غضب الأب، مما يعيق قدرتهم على التواصل والتعبير عن الذات في المستقبل، وفي محاولة للتكيف، قد يتبنون أنماطًا سلوكية غير صحية كإرضاء الآخرين بشكل مرضي أو العدوانية أو الانسحاب العاطفي، كما أنهم قد يشعرون بلوم أنفسهم غير مبرر تجاه مشاكل الأب ويحاولون تحمل مسؤولية سعادته، مما يثقل كاهلهم بعبء يفوق طاقتهم، وقد يؤدي كل ذلك إلى تأخر في نموهم العاطفي والاجتماعي نتيجة لنقص الدعم والتوجيه اللازمين في البيئة السامة التي نشأوا فيها.

والأسوأ من ذلك، أن هذه الجروح النفسية إذا لم تُعالَج، تتحول إلى نمط مكرر، حيث ينقل الابن أذى طفولته إلى أطفاله أو شركائه، ويعيد إنتاج نفس السموم في جيل جديد دون وعي. تتعدد العوامل التي تجعل من الأب عبئًا نفسيًا ثقيلاً على أبنائه، بدءًا من السلوك النرجسي الذي يجعله يتمحور حول ذاته ويتجاهل احتياجاتهم ساعيًا للإعجاب المستمر، مرورًا بالسلوك المسيطر والمتسلط الذي يقيد حريتهم ولا يحترم استقلالهم وآراءهم، كما أن النقد الدائم والتقليل من شأنهم والسخرية من نقاط ضعفهم تعمل لديهم شعورًا بالنقص وعدم الكفاءة.

ويضاف إلى ذلك العنف اللفظي والعاطفي المتمثل في الإهانات والصراخ والتهديدات، فضلاً عن الإهمال العاطفي والجسدي الذي يحرمهم من الدعم والاحتياجات الأساسية، وتزيد السلوكيات الإدمانية للأب من وطأة الوضع وتؤثر سلبًا على سلوكه وعلاقته بهم، كما أن تقلب المزاج وعدم الاتساق تجد بيئة منزلية غير آمنة ومضطربة، وإن توقع الكمال ووضع معايير غير واقعية يشعر الأبناء بالإحباط الدائم وعدم الرضا.

ولهذا، يجب على الوالدين أن يدركا تمامًا أن كل تصرّف يصدر منهما، مهما بدا بسيطًا، يترك أثرًا عميقًا في نفس الطفل، ويؤثر في تنشئته وسلوكه ومستقبله، سواء بالسلب أو الإيجاب. لكي يتحول الأب من مصدر للجراح إلى وطن آمن وداعم لأبنائه، يتعين عليه تبني سلوكيات وقيم أساسية، تبدأ بالحب غير المشروط والقبول الكامل لذاتهم بغض النظر عن إنجازاتهم أو أخطائهم، ليس فقط بالحضور الجسدي، بل بالتفاعل، بالاهتمام، بالحب غير المشروط، ويستلزم الأمر الاستماع الفعال لمشاعرهم واحتياجاتهم بتعاطف وتفهم، بأن يُنصت الأب لصوت ابنه، لرغباته، لمشاعره.

وبحسب البطوش، ينبغي على الأب توجيه وإرشاد الأبناء بحكمة ولطف، مع توفير بيئة منزلية آمنة ومستقرة عاطفيًا وجسديًا، وأن يكون قدوة حسنة في سلوكه وقيمه أمر بالغ الأهمية. فالبدايات هي التي تُشكّل الشخصية، والطفل في جوهره قابل للخير والشر، وإنما أبواه من يوجّهانه نحو أحد الطريقين. في النهاية، الأب إما أن يكون مرجعًا يُلجأ إليه في الأزمات، أو ظلًا ثقيلًا يُهرب منه في الصمت.

 ويشير الاختصاصي الاجتماعي الأسري مفيد سرحان إلى أن تربية الأبناء مسؤولية كبيرة، وهي عملية ليست بالسهلة وتحتاج إلى قدرات ومهارات وأساليب، وهي أمانة، وهي عملية تراكمية منظمة وليست عشوائية. وتقوم على أسس ومبادئ.

ويجب أن يمتلك الوالدان قدرا مناسبا من الوعي والمهارات لتربية أبنائهم خلال المراحل العمرية المتعددة،

كما أن التربية يجب أن تراعي حاجات الأبناء النفسية والعاطفية والجسدية وتعمق لديهم الشعور بالمسؤولية والانتماء للأسرة والمجتمع والوطن.

وينوه سرحان أنه ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي فإن مهمة الوالدين أصبحت أكثر صعوبة. وتواجهها تحديات كثيرة. وتفرض على الآباء والأمهات الاستمرار في تطوير الذات ومواكبة المستجدات لمساعدة الأبناء في مواجهة التحديات والتعامل الإيجابي مع الواقع.

ويؤكد سرحان أن غاية الوالدين دائما هي مصلحة الأبناء وتنشئتهم تنشئة سليمة تؤهلهم للنجاح في الحياة.

وكما للآباء والأمهات حقوق على أبنائهم فإن للأبناء أيضا حقوقا على والديهم. وأهم هذه الحقوق حسن التربية.

 لكن بعض الآباء عن قصد أو بدون قصد لا يحسن تربية أبنائه ويتسبب لهم في أضرار نفسية، كرغبة بعض الآباء في التحكم في كل شيء وأن يكون له القرار وهو الذي يمتلك الحقيقة دائما والرأي الصواب.

وهنالك آباء يبالغون أيضا في ردود أفعالهم تجاه تصرفات الأبناء ويهولون الأمور ويصرون على إحراج الابن أمام  الآخرين مهما  كان تصرفه. ويقارنونه مع غيره من الإخوة والزملاء. دون أن يدرك أن الأشخاص متفاوتون في القدرات، وأن ذلك لا يعيبهم.

 ولعل السبب في ذلك ثقافة الأب وتربيته والبيئة التي نشأ فيها، وربما لا يدرك أنه بذلك يحطم شخصية الابن ويسبب له مشكلات نفسية وصحية ويشعره بالنقص والإحراج أمام الآخرين ويضعف ثقته بنفسه. ويؤثر سلبا على تحصيله العلمي وعلاقاته الاجتماعية.

مسؤولية الآباء كبيرة في مراجعة تصرفاتهم وأثرها على الأبناء. فالأبوة لا تعني السيطرة والتحكم بل هي رعاية وتوجيه وملاذ آمن وحضن دافئ وقدوة حسنة.

ويرى سرحان أنه ليس من المناسب أن يكون الأب سببا في إضعاف شخصية الأبناء أو التسبب لهم بالقلق والاضطراب. وقد يكون الأب غير مدرك لأثر ما يقوم به فغياب الحوار والنقاش سبب رئيسي في ذلك. كما أن الاستفادة من أهل الاختصاص في الأمور الاجتماعية والإرشادية له دور مهم في توضيح كيفية التعامل مع الأب أو الاستعانة ببعض الأقارب والأصدقاء من خلال جلسات الحوار والنقاش والحديث غير المباشر أو مناقشة تجارب الآباء والأصدقاء في تربية أبنائهم.

JoomShaper